استشراء الانحراف الفكري.. ينتهي بـ «فطن»!
لقد أدار معالي وزير التعليم دفة العلاج والتوجيه لإنقاذ المجتمع التعليمي من جذور هذه المشكلة، وذلك من خلال سن لوائح واضحة لبرنامج حملة – فطن – للحد من شرور هذا الانحراف السلوكي والفكري…!
لا يختلف اثنان على أن المملكة العربية السعودية تشهد تحولاً جذرياً ولاهثاً في مجالات كثيرة، والتعليم الحديث وبوزارته الغراّء على وجه الخصوص، وأننا بصفتنا سعوديين إذ نحمد الله رب العالمين على النعم التي نحن بها ولا تعد ولا تحصى في ظل هذه الحكومة الرشيدة والحاملة لهموم الفرد والمجتمع، نعم، أيها الأعزاء إن الانتماء له قيمته الرمزية لكن لا يمكن لوحده أن يحقق القيمة الوجودية والذاتية، فالمواطن والمسؤول دوماً يرغبان في تنمية الوطن وبنائه في شتى المجالات، وإن كانت هنالك شرائح واسعة من المجتمع تسبب نوعاً من الخطورة الفكرية الكبيرة للغاية التي نحن بصدد إلقاء الضوء عليها من خلال هذا المضمار.. والانحرافات التي تصد الناس عن الحق كثيرة متشعبة ولا يمكن حصرها في موضوع واحد.
ففي ظل تعرض الأسرة السعودية إلى الغزو الثقافي المنظم الذي بات يهدد أهم ما تمتاز به من روح التكافل والمودة والرحمة، ظهرت على السطح عديد من الظواهر المؤسسة كالانحراف الفكري الذي يزين لصاحبه أنه على شيء – وهو أسوأ أنواع الانحرافات وأبعدها ضلالاً، وبرأيي أنه يتشكل في صورتين، التمادي في الباطل وعدم الإذعان للحق، وقد كان السلف يقولون: المبتدع لا يتوب، يعنون أنه قلّ أن يوفق للاعتراف بالخطأ، والرجوع للصواب بخلاف صاحب المعصية – المسلم – لأن البدعة ثمرة الفكر المنحرف والاعتقاد الفاسد، والمعصية ثمرة الغفلة والضعف غالباً.. قال تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما).
وأخرى أن الأعمال التي تصدر عن تصور فاسد وفكرة منحرفة ضررها على الفرد والمجتمع أكبر وأظهر، ومَن نظر في تاريخ الأمة الإسلامية علم أن أعظم المشكلات التي منيت بها الأمة كانت نتاجاً مباشراً لانحرافات فكرية وعقدية جانب أصحابها منهج الوحي وركبوا بنيات الطريق، فوقع بسبب ذلك فساد عريض سفكت فيه الدماء واستحلت المحارم وعمت الفتن والمنكرات.
فالشاهد أن الانحرافات الفكرية ضررها على الناس أكبر؛ لأنها تستند في ترويج باطلها على حجج عقلية وحيل نفسية قد ينخدع بها كثير من الناس، إلا أن الملاحظة التي نريد أن نثبتها هنا هي أن هذه الانحرافات الفكرية مهما تعددت مدارسها وتباينت أزمانها وبيئاتها إلا أن بينها سمات مشتركة وخصائص متشابهة ومنطلقات موحدة، وقد بين الله لنا في مواضع من القرآن الكريم أن تشابه القلوب في الكفر والعصيان يؤدي إلى تشابه في الأقوال والأفكار والمناهج إن هذا التشابه في الأفكار والتصورات والمناهج والمنطلقات يجب أن يكون سبباً في زيادة وعي الأمة وصقل خبرتها وبصيرتها في اكتشاف مواضع الخلل والزيغ في معركة الفكر التي تخوضها. ولاشك أن الغوص المعرفي وتتبع الأفكار ونقدها أمر شاق إن لم يكن متعذرا في زمان تمدنا فيه المطابع والفضائيات وشبكات الإنترنت بأمواج من الأفكار المنحرفة التي يجب أن نحصن منها أمتنا، ولكن الذي يستطيع المهتمون من العلماء ومفكرينا أن يفعلوه -في هذا الباب- هو أن يملكوا الأمة معالم كلية وضوابط جامعة يستهدي بها الناس في اكتشاف المدلسين الذين يصفون أنفسهم أو يصفهم الناس بأنهم مفكرون أحرار ينطلقون من داخل الفكر الإسلامي يبشرون بثورات تجديدية وأفكار غير مسبوقة.
وأظن أن من أبرز السمات الجامعة التي يلتقي عليها جماعات الفكر المنحرف المفارقون لمنهج الوحي المعصوم من أبناء أمتنا تتمثل في تحقير تراث الأمة وازدراء رجالها؛ فالمنحرفون من أهل زماننا لا يشغل بالهم إلا الحرص على أن يحولوا بين الأمة وبين الارتباط بتراث سلفها الصالح؛ لأنهم يعلمون أن الحاجز المنيع الذي يقف أمام شيوع أفكارهم المنحرفة هو تقدير الأمة لفقهائها الكبار الذين ارتضتهم أئمة هدى ومشاعل نور، ومن الزيف الكبير الذي يمارسه هؤلاء المنحرفون أنهم يصورون للناس أن معركتهم مع تراث الأمة معركة بين القديم والحديث، وهذا من الزور الذي لا يمكن أن يصدقه أحد؛ لأننا نراهم في كل المحافل أكثر الناس حماسا للدعوات الداعية لربط الأمة بتاريخها القديم. إن تواطؤ المنحرفين على تسفيه تراث الأمة سلوك لا يصدر إلا عن عقدة نفسية سببها الخسة والوضاعة، أيضاً هناك ادعاء أن الدين يحتاج لتطوير ليواكب التطور الإنساني الحجة في ترويج هذه الفكرة – التي يراد بها تجاوز أحكام الدين – أن النصوص قديمة متناهية والحياة متجددة، فلا بد إذن من انتزاع القداسة عن النصوص والتعامل معها فحيثما وجد الالتواء في القول والغموض في التعبير دلنا ذلك على تشوه الفكرة في صاحبها!!
إن العلة في هذا الغموض والمراوغة هي شعور المنحرفين بأن الإفصاح عما يريدون قوله سيعجل بخسارتهم وانتهاء أمرهم، والذين يتابعون مجريات الحدث التعليمي على امتداد خارطة المملكة العربية السعودية والذين يشتغلون بمسارات الفكر التربوي يلمسون ذلك التقصير الشامل في مخاطبة ومجابهة هذا الانحراف الفكري والسلوكي في آنٍ، والاهتمام بسنوات نشأته.. وما يلاحظ على الدرس الأكاديمي هو تناسيه لصدّ هذا السيل من انخفاض وقصور الوعي السلوكي والفكري لدى الطلاب وإقرار مناهج وبرامج تعليمية تبحث في سلوكه وفكره ومهاراته الأساسية.
الجدير بالذكر، أن شكاوى الآباء في الآونة الأخيرة كثرت من ظاهرة الانحراف الفكري لأبنائهم، وسلوكهم مسالك شاذة في التفكير وإبداء آرائهم في أمور تعليمية وحياتية ودينية.. والأخطر أن هذه الظاهرة وجدت طريقها إلى مدارس البنين والبنات، مما يثير قلق أولياء الأمور أكثر حول الإجراءات التي تعتمدها المدارس لمواجهة استشراء هذه الظاهرة بين الطلاب والطالبات والوقوف على مخاطرها الخفية والمُعلنة.. من هنا كانت المبادرة الكبيرة من معالي وزير التعليم الدكتور عزام الدخيل، وذلك بإطلاق الحملة الوطنية التوعوية (فطن) لوقاية الطلاب والطالبات من «الانحرافات الفكرية والمشكلات السلوكية»، وذلك انطلاقاً من أهمية تنمية مهاراتهم الشخصية والاجتماعية لمساعدتهم في اكتساب المهارات الحياتية التي تجعلهم قادرين على قيادة ذواتهم بإيجابية، وتضمَّن القرار اعتماد تنفيذ البرنامج على مستوى المناطق والمحافظات. فنحن ولله الحمد نمتلك الإمكانات المادية، ونمتلك الإخلاص والحرص على إفادة الطالب والإعداد الجيد له من خلال تربويين وتربويات يعلمون جيداً مهامهم الفاضلة، ولم يبق إلاّ أن نتحرك في ظل الظروف المواتية.
ونسأل الله تعالى جُلّ سداده وعظيم توفيقه بأن يعمّ الخير والبركة على طالباتنا وطلابنا في مداد حكومة سعودية نهجها القرآن الكريم وسنة نبيه المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وحكمة ولاة الأمر -حفظهم الله ورعاهم-.